Thursday 17 May 2012

الوقوف في المنطقة الرمادية .. إنتحار سياسي




ـ  دراسـة تحليلية  ـ
 القسم الأول


بين الأسود والأبيض هناك منطقة رمادية .. وفي هذه المنطقة يصعب بل يستحيل الفصل بين اللونين .
على مدى سنوات طويلة ، وأنا في معترك الكتابة السياسية وما تحتويه من تعقيدات تتعلق بالتحليلات والمقارنات والدراسة . وجدت نفسي في موقف لاأُحسد عليه وخصوصاً في العقد الزمني الأخير ، وعلى وجه أخص خلال السنوات الست الأخيرة منذ أن تم إحتلال العراق ، وما أفرزه ذلك من تداعيات لم تخرج من دائرة خطورتها المنطقة ودولها الإقليمية إضافة بالطبع الى الضحية نفسها وهي العراق . لقد كنت وبإستمرار وأنا أتناول هذا الموضوع أو ذاك بالكتابة والتحليل ، تتبلور أمامي صورة تزداد ضبابية وظلاماً ، كما بدأت تتوضح في داخلي مواقف تزداد تعقيدا كلما إزداد نموها حتى وجدت نفسي أننا جميعاً وفعلاً أمام موقف جديد كلياً ، على الأقل في ظواهره وإن كانت بواطنه معروفة لدينا ومنذ زمن ، ذلك هو أن معظمنا ممن يعيش في المنطقة ويعايش أحداثها من : أنظمة سياسية ، أو أحزاب دينية أو علمانية ، أو تنظيمات وتكتلات سياسية ، أو مثقفين ومفكرين ، أو ناشطين وكتّاب وباحثين ، أو حتى من عامة الناس بين شعوب المنطقة ، لازلنا نقف في تلك المنطقة الرمادية ، ولعلنا لم ندرك بعد خطورة ذلك على صعيدين ، أولهما ماوصلنا اليه لحد الآن  ، وثانيهما مايُتوقع ان نصل اليه وهو الأخطر والأهم في اللعبة السياسية .

لكي نقف على ذلك كله ، لابد أن يكون الطرح صريحاً وشفافاً من جهة .. ولابد أن يكون إتخاذ القرار واضحاً وجريئاً من جهة ثانية ، والقاسم المشترك بين الإثنين هو عملية إعادة حسابات جدية وصادقة تستند على وجوب إتخاذ موقف جديد يستند بدوره على نقد ذاتي وتنازلات عقلانية وتفكّر بما كان وما هو مُتوقع أن يكون . ومن هنا نبدأ وعلى قسمين :
القسم الأول سيتناول جانبين هما : السرد التاريخي وظواهره الحالية .  والتداعيات العملية الناجمة عن المشروع الإيراني .
أما القسم الثاني من البحث فسيتناول أيضاً جانبين هما : مراحل التخطيط والأهداف البعيدة . ثم التحرك المضاد المطلوب والنتائج المتوقعة .

السرد التاريخي والظواهر الحالية :

في هذا الجانب سنتناول :
ـ  الظواهر والتحركات على الساحة الإقليمية .
ـ  الحلم الفارسي في رداء الثورة الإسلامية .
ـ  دور ومواقف الأحزاب الدينية والحركات الطائفية .
ـ  تسييس الدين لغرض تحقيق الأهداف المعلنة والخفية .

أولاً : الظواهر والتحركات على الساحة الإقليمية .

بدأت الكثير من الأمور والظواهر تطفو على السطح منذ إحتلال العراق عام 2003 م .. وكان لهذه إفرازات تعدت الحدود الجغرافية للعراق لتحاول أن تُدخل في دائرتها دول المنطقة بشكل عام . فماكان يتم العمل له في السر بدأ يدخل دائرة العلن .. ومايتم الإعلان عنه تقف وراءه أصابع خفية تعمل في السر . وكلا الأمران بدأت عاصفتهما تهب من الشرق ، وتحديداً من إيران .
كان العراق هو الساحة الأمثل للعب لدور الإيراني من منطلقات عديدة ، منها التنسيق غير المعلن بين الولايات المتحدة والنظام الإيراني في إسقاط صدام حسين . هذا التنسيق لم ينكره الإيرانيون ، بل كانوا هم أول مَن صرّح به حيث جاء تصريح السيد محمد أبطحي ، مدير مكتب السيد محمد خاتمي رئيس الجمهورية الإسلامية الإيرانية السابق ، وأحد أبرز الشخصيات في منظومة الحكم الإيرانية : ( أن على الولايات المتحدة أن لاتنسى أنه لولا مساعدة إيران لما تمكنت من إحتلال العراق وأفغانستان ) .. ثم جاء تصريح السيد هاشمي رافسنجاني ، رئيس الجمهورية الأسبق حين قال ( إن إيران إستفادت كثيراً من إحتلال العراق ) ، ومنها كذلك الموقع الجغرافي للعراق وإيران وحدودهما الطويلة المشتركة ، ومنها إستغلال بسطاء الناس من الشيعة في العراق على إعتبار أن إيران بنظرهم تمثل حامية المذهب الشيعي والمدافعة عن ( مظلوميتهم ) ! ، ومنها إحتضان إيران لنشوء الأحزاب الدينية المتطرفة في العراق ، حيث تم تأسيسها وتغذيتها وتمويلها وتدريب كوادرها عسكرياً داخل إيران قبل وبعد عام 2003 م ، أي عام سقوط النظام العراقي السابق .
فلا غرابة إذن في تعاظم الدور الإيراني داخل العراق على المستويين الرسمي والشعبي ، الأمر الذي يبدو للجميع أنه لايخرج عن أحد إحتمالين : إما أن السياسة الأمريكية في العراق قد غُلبت على أمرها ، أو أنها قد أغمضت أعينها عن كل ذلك !
وإذا ماانتقلنا الى خارج دائرة النفوذ الإيراني في العراق ، نجد أن للأصابع الإيرانية تأثيراتها المختلفة صعوداً ونزولاً ، من خلال سوريا وحزب الله اللبناني ، وتدخلاتها التي بدأت تأخذ أشكالاً متعددة في مصر والشمال الأفريقي ومنطقة الخليج العربي ، ولكنها تلتقي عند هدف واحد محدد تم إعلانه منذ عام 1979 حين قامت الثورة الإيرانية ، ألا وهو مبدأ ( تصدير ) الثورة ! وهو موضوعنا للفقرة التالية :

ثانياً : الحلم الفارسي في رداء الثورة الإسلامية .

كان إطلاق شعار تصدير الثورة ( الإسلامية ) ، من أول الشعارات التي رفعها قائد الثورة الإيرانية السياسي والروحي الإمام الخميني عام 1979 م ، ولم يكن رفع هذا الشعار الذي صدرَعن شخصية بحجم وأهمية الخميني يمثل مجرد شعار ثوري بل أنه كان يأخذ البعد العقائدي أيضاً ، أو بكلمة أخرى كان عبارة عن فتوى دينية ملزمة صادرة عن ( الولي الفقيه ) . وعلى هذا النهج بدأ التخطيط والتنفيذ على كافة المستويات في الجمهورية الجديدة .
فماذا كان يعني التصدير للثورة ..؟
هل هو نشر للإسلام على إعتبار أن الثورة إسلامية ؟
أم هل هو لإسقاط أنظمة سياسية في المنطقة على غرار إسقاط نظام الشاه محمد رضا بهلوي ؟
ببساطة ، وبوضوح ، وعلى الرغم من منطقية التساؤلين ، لاأظن أنها هذا أو ذاك فقط .. فلا الدول المحيطة بإيران هي دول غير مسلمة ، ولا هو لمجرد تغيير نظم سياسية أو وجوه حاكمة على فرض أنها لاتمثل شعوبها ، إضافة الى عدم شرعية ذلك الهدف المعلن من وجهة النظر الدولية السياسية والقانونية وكان يمثل صراحة التدخل الوقح في شؤون دول مستقلة في المنطقة .
الهدف الرئيسي من شعار كهذا كان يصب في إطار ( المذهبية الدينية ) على إعتبار أن مسلمي الدول المسلمة المحيطة بإيران من شرقها وجنوبها وغربها هي دول إسلامية تنضوي الأغلبية الساحقة من شعوبها تحت مذاهب أهل السنّة والجماعة ، وهم الذين تم إختزالهم من قبل المؤسسة الدينية الطائفية بكلمة (النواصب) !!
هذا من ناحية ، ومن الناحية الثانية ، أن أغلب هذه الدول تتمتع بثقل مركزها الإقليمي والدولي ، وقوتها الإقتصادية وعلاقاتها الدولية ودبلوماسيتها الرصينة. ولكن الأهم من ذلك ، هو أن هذه الدعاوى المستندة على المرجعية الإسلامية وقيام الجمهورية الإيرانية على هذا الأساس لم تكن إلا جسراً للعبور الى هدف وحلم قديم ينكره الساسة الإيرانيون في وقت تؤكده حقائق الأحداث ، ذلك هو إحياء الحلم الفارسي والإمبراطورية الفارسية التي قوّض أركانها العرب بعزة الإسلام وعلى يد الرعيل الأول من الصحابة .
قد ينتفض البعض لهذا الإستنتاج ويعتبره مبالغة كلامية ومحض خيال لايستند الى واقع .. ولكنني أجيب على ذلك وبإختصار ، أن التجربة العراقية في ظل الهيمنة الإيرانية قد أثبتت لنا الكثير من المتناقضات ورأينا أن مِن ضمن المتضررين منها العرب الجنوبيين من أتباع المذهب الشيعي ، تماماً كما يعاني منها ولا يزال عرب الأحواز الشيعة في جنوب غرب إيران . وهذا بحد ذاته إسقاط للدعاوى المعلنة بالإلتزام الإيراني بأصول التشيع الذي يطلق عليه ( الجعفرية ) نسبة الى الإمام جعفر الصادق ، وهو الإمام الفقيه العالم العربي الأصل والنسب ، وأن ماهو موجود فعلاً على أرض الواقع هو التشيع السياسي أو تسييس التشيع لخدمة الهدف السياسي . فلم يشغل موقع المرجع الشيعي الأعلى في العراق وعلى مدى مئات السنين إلا إثنان ولفترة بسيطة ، والبقية هم من الإيرانيين الفرس .
كما أن نظرة بسيطة الى الممارسات والثوابت في الحكم الإيراني في ظل الجمهورية ( الإسلامية ) نفسه ، يؤيد ذلك أيضاً ، ومنها على سبيل المثال لا الحصر ، إستمرارالإعتماد الرسمي على التقويم الفارسي الذي كان في عهد الشاه  بدل التقويم الإسلامي ، وإستمرارالإحتفال بعيد مجوسي الأصل يرتبط بعبادة النار تاريخياً وقبل الإسلام وهو مايسمى ( عيد النوروز ) وهو عيد رأس السنة الفارسية أيضاً ، إحتفالاً يفوق الإحتفال بعيدي الفطر والأضحى اللذين يفترض ان يكون لهما مكانتهما في دولة إسلامية ، إضافة الى مكانة وأهمية التقويم الهجري الإسلامي ! وأمور كثيرة أخرى أصبحت معروفة لدى الجميع ولاداع لتكرارها مع أهميتها ومدلولاتها التي شوّهت الصورة الحقيقية للإسلام بشكلٍ تجاوز البدع ووصل الى حد التحريف وهي ليست في صلب موضوعنا هذا وربما تناولناها تفصيلاً في المستقبل .

ما أردت أن أصل اليه هو ، أن الهوية الفارسية تكاد تكون الغالبة على ممارسات النظام الإيراني ، وليست الهوية الإسلامية حتى وفق المنظور الطائفي المقيت . ولتحقيق ذلك ، كان لابد من توظيف أحزاب ذات صبغة دينية في المنطقة أو ( طابوراً خامساً ) لتساعد على تحقيق الهدف الحقيقي ، وهو مانتناوله في الفقرة الثالثة :

ثالثاً : دور ومواقف الأحزاب الدينية والحركات الطائفية .

الجسر الذي بدأت إيران بناءوه عبر سوريا بالذات وصولاً الى لبنان لتأسيس الأحزاب ، الدينية المظهر والطائفية المضمون والمرتبطة روحياً وماديا يإيران ، وعلى يد أجهزة مخابراتها وخبراتها العسكرية وإستخدامها لدبلوماسييها كسفرائها لدى سوريا ، بدأ منذ وقت مبكر بعد الثورة الإيرانية عام 1979م ، ولم يكن ذلك إلا حلقة في الخطاب الخميني للتوسع وتطبيق نظرية تصدير الثورة .. أما الرداء الذي ألبسته إيران لهذه الأحزاب فهو لاشك ثوب برّاق في العيون العربية .. إنه ثوب المقاومة المسلحة وقتال العدو الصهيوني في الأراضي المحتلة. ومن أبرز تلك التنظيمات هو " حزب الله " الذي رضع من شريان تنظيمات سبقته مثل حركة أمل وغيرها والتي كانت ضمن التبني والرعاية الإيرانية ولسنوات عديدة . 

ولكن ، أين يكمن ميزان الربح السوري في هذه التجارة السياسية ..؟
هنالك ثلاث منطلقات لذلك : أولها حالة العداء المترسخة والتي كانت تسود العلاقات مع العراق في ظل حزب البعث ، وعداء النظام العراقي آنذاك لإيران . وثانيهما الرغبة السورية في الهيمنة على لبنان والتي وصلت حد الوجود العسكري السوري على أرضه ، وثالثها هو تقمص النظام للقوة المؤثرة في دول المنطقة ولاسيما الدول الخليجية والعراق ولو على شكل نمر من ورق ! وكل هذه العوامل تقف في صف إيران ومصالحها وخططها في المنطقة مستثمرة ايضاً اللون الطائفي العلوي الذي يحكم سوريا ولعقود . وعلى الرغم من أن إيران من الناحية المذهبية تختلف كلياً لدرجة العداء مع الطائفة العلوية تاريخياً ، إلا أنها وكعادتها إستثمرت الوجود العلوي المتنفذ في سوريا لصالحها ، أي بكلمة أخرى تسييس المذهب كما دأبت على ذلك . فمن المعروف أن العلويون هم من طائفة النصيريين التي تنسب الى أبو شعيب محمد بن نصير البصري النميري المتوفى عام 270 للهجرة ، والذي عاصر الإمام محمد المهدي والإمام علي الهادي والإمام حسن العسكري ، وافترق عن مذهب الإمامية الإثنا عشرية بعد وفاة الإمام العسكري . وكان النصيريون يشكلون دائماً من وجهة نظر الفقه الشيعي جماعة مرتدة لخروجها عن الإعتراف بالإمامة الأثني عشرية وهو الكفر بعينه من وجهة نظر الفقه الشيعي وكما جاء في مدونات كبار مراجعهم .  

إنسحبت تجربة حزب الله الى تنظيمات مشابهة ، عقائديا على الأقل ، في مرحلة معينة وفي مناطق أخرى من الدول العربية وبصور مختلفة ، منها العراق الذي تحقق فيه نجاح النفوذ الإيراني بعد إحتلاله من قبل الأمريكان ، ومنها الدول الخليجية ، ومنها شمال أفريقيا والسودان واليمن والقرن الأفريقي .

ولكن ، ولغرض إكتمال صورة المخطط الإيراني وإضفاء الشرعية على تحركاته ، كان لابد من مد الجسور الى تنظيمات وأحزاب إسلامية أخرى غير شيعية وأهمية ذلك لإيران في دول تعتبر الطائفة الشيعية فيها عبارة عن أقلية لاتذكر .. وهو موضوع الفقرة الرابعة التالية :

رابعاً : تسييس الدين لغرض تحقيق الأهداف المعلنة والخفية .

حاولت إيران ونجحت الى حد ما في إستقطاب أحزاب وجماعات إسلامية تعمل على الساحة . بعضها تأسس منذ أمد طويل ، والبعض الآخر نشأ من خلال أحداث المنطقة السياسية في السنوات الأخيرة . هذا الإستقطاب والدعم لاشك يدخل ضمن حلقات تكتيكية وليست ستراتيجية ، لأن فكر وطبيعة وجوهر هذه الأحزاب يتعارض كلياً مع الأفق الطائفي المذهبي الذي تعتمده إيران وتُعرف به أمام العالم الإسلامي ، وأن إتخاذه بالشكل المبدأي او الستراتيجي هو مغاير لآيديولوجية النظام وقد يكون مضراً له في المديات البعيدة . ولكن ، ولكون هذه الأحزاب والجماعات تعمل ضد أنظمة سياسية عربية حاكمة ، فقد أصبح إستثمارها من قبل إيران عملية سهلة للضرب من الداخل ، عملاً بمقولة " عدو عدوي صديقي " !

جماعة الإخوان المسلمين ، على سبيل المثال ، هي من الإحزاب والحركات الإسلامية القديمة على الساحة العربية . وهذه الجماعة أخذت عبر سنوات عملها السري والعلني مسميات ويافطات منوعة وحسب ساحة نشاطها في كل دولة . وقد أوصلها ذلك الى نوع من التمزق التنظيمي تلاه تمزق فكري ووحدة الهدف أيضاً ، في حين حافظت بعض أجنحتها على أصولية المبادئ التي قامت عليها ، ولكن هذه الأجنحة لم تعد تمثل في الوقت الحاضر إلا الأقلية ضمن الجماعة ، والتي فقدت حتى إسمها من خلال تنظيماتها في هذا البلد أو ذاك . أضف الى ذلك تخبط وعدم وضوح الرؤية السياسية لدى الجماعة والأخطاء الفادحة التي أوقعت نفسها فيها . كل ذلك كان الطُعم المغري في اليد الإيرانية !

من أهم ماتحقق لحد الآن على صعيد نجاح التكتيك الإيراني ضمن جماعة الإخوان هو في العراق وفلسطين . أما في العراق فقد تم إحتواء الجماعة التي إتخذت إسم
" الحزب الإسلامي العراقي " تحت جناح الأحزاب الموالية لإيران والحاكمة هناك . وفي فلسطين ، وغزة بالذات ، ومن خلال الصراع الذي نجم عن وصول الإخوان وتحت إسم " حركة المقاومة الإسلامية " حماس  ، الى الحكم ، والذي لعبت في تحقيق ذلك لمصالحها الأصابع الإسرائيلية والإيرانية والسورية ، سواء بعلم الحركة أو بإستغفالها مما أدى الى إنقسام خطير في الصف الفلسطيني وصل حد الصدام المسلح مابين فتح أو السلطة الفلسطينية ، وحماس ، أو السلطة المنتخبة . وهاهي إيران اليوم تمد حماس بالمساعدات ، وتدعو قادتها الى زيارات رسمية لطهران والذين قاموا بالهرولة اليها الواحد تلو الآخر.

هذا فقط جزء من الإختراق الإيراني لجماعة وحركة إسلامية سنية فاعلة يفترض أنها إسلامية المبدأ ، عربية المنشأ . وقد حدث نفس الشيئ وبنفس الُطُعم المغري لحركات إسلامية أخرى في المنطقة تميزت بالتطرف والعنف المسلح تنتشر هنا وهناك متخذة من تسميات تتستر وراءها ولاتنطبق وواقع حالها مثل السلفية ، والجهادية والى آخر القائمة . ولعل على قمة ذلك يأتي ماعرف بتنظيم " القاعدة " . ومع هذا التنظيم يجب أن تكون لنا وقفة سريعة .

إكتسبت القاعدة صفة العالمية وخصوصاً بعد أحداث سبتمبر 2001 في نيويورك .. وكانت الدعاية والتمجيد لها قد سبق ذلك من خلال تجنيد أعضائها في أفغانستان لمقاومة الإحتلال الروسي آنذاك . ويعزي الكثيرين ممن يدرسون الحدث بظواهره الى أن القاعدة هي صناعة سعودية ويعززون آرائهم تلك بشخص ، أسامة بن لادن ، السعودي الجنسية ، رئيس تنظيم القاعدة . ولكن واقع الحال ومن خلال عشرات الكتب العالمية التي نشرت والتي إستندت في طروحاتها على تقارير ومستندات مخابراتية وحكومية ، تدحض هذا التوجه ، ليس فقط من خلال ماتعرضت له السعودية نفسها وعلى أراضيها من أعمال إرهابية تبنتها القاعدة ، بل أيضاً من خلال ماكشفته الأحداث لاحقاً من إرتباطات مشبوهة للقاعدة بجهات أخرى تعتبر على طرفي نقيض من نظام الحكم السعودي . ولعل أبرز مثال في هذا الجانب ، هو ما ظهر للعالم بعد الإحتلال الأجنبي للعراق من دعم إيران لفصائل القاعدة التي تنشط هناك . وكل ذلك أصبح يدخل ضمن التبريرات المضللة والساذجة للنظام الإيراني والتي تعتمد على أن القاعدة تقاتل أميركا في كل من العراق وأفغانستان في تكتيك ذكي لإحتوائها واستخدامها متى ماشاءت وأين ماشاءت مستقبلاً . والغريب في معادلة الصراع على الأرض العراقية ، أن الحكم هناك وإرتباطاته المعروفة مع النظام الإيراني  وبدعم أمريكي ، قام بتأسيس مجموعات مقاتلة من العشائر السنية العربية أطلقوا عليها مجالس الصحوات لمقاتلة أفراد القاعدة وإذكاء حالة الفوضى والدمار ، وبذلك تصبح إيران الرابح الأكبر من منطلقين .. قتال بلا هوادة بين عرب سنّة بعضهم مع بعض وفسح المجال أمامها لتوسيع تدخلها في الشأن العراقي !
وقد يقول قائل ، أن أفراداً من القاعدة دخلوا العراق من السعودية .. ونقول نعم ربما ، ولكنهم أيضاً أتوا الى العراق عبر بوابات مختلفة من سوريا واليمن والسودان والأردن ومصر وحتى بعض دول المغرب العربي . بعض هذه الدول يمتلك حدوداً مشتركة مع العراق مثل المملكة العربية السعودية ، ولكن ذلك لايعني أن هناك تبني رسمي سعودي لمثل هؤلاء ، كما أنه لايعني أيضاً أن الدول التي تسللوا منها لديها نفس التوجه . راجع سلسلة مقالات علي الحمداني / مترجمة : الحرب على الحقيقة .
War on Truth, by : Nafez Musadaq Ahmad

لقد حققت إيران تسييس الدين لخدمتها في طائفتيه الشيعية والسنية إذن من خلال الحركات والتنظيمات الدينية الإقليمية. وعلينا أن نتذكر ذلك ، ونحن نستعرض بقية فقرات البحث حتى الوصول الى المحصلات النهائية .    

التداعيات العملية الناجمة عن المشروع الإيراني :

وتحت هذا العنوان ، سيكون حديثنا في قسمين :
ـ  الإعلان والتحرك الإيراني فيما يتعلق بأطماعها الإقليمية والسياسية
ـ  التحرك المحموم في مجال التسلح والتطوير العسكري والتهديدات المبطنة لدول المنطقة من هذا المنطلق .

أولاً : الإعلان والتحرك الإيراني فيما يتعلق بأطماعها الإقليمية والسياسية .
   
تاريخياً عمدت إيران الشاه الى إحتلال الجزر العربية في الخليج طنب الكبرى وطنب الصغرى وأبو موسى .. وكان من المنطقي وعند سقوط الشاه وقيام نظام (إسلامي) بدلاً عنه ، أن يفتح صفحة جديدة مع دولة الإمارات العربية المتحدة ، المسلمة والعربية والخليجية الجارة أيضاً لمناقشة هذا الإحتلال غير الشرعي من منطلق روحية إسلامية يفترض أن الثورة الجديدة تحملها . لكن ذلك لم يحدث ، بل حدث العكس تماماً ، وهو تمسك النظام الإيراني الجديد بهذه الأرض العربية المحتلة ورفضه التام وعلى مدى ثلاثين عاماً فتح صفحة جديدة في هذا الموضوع .

المطالبة الإيرانية الأخيرة بدولة البحرين !! ثم التدارك الإيراني الهزيل لتبرير ذلك على أنه لايمثل وجهة النظر الرسمية بل يعتبر تصريح شخصي وغير رسمي !!

إحتلال إيران لجزيرة " أم الرصاص " في شط العرب في العراق ، ومطالبتها بميناء " خور العميّة " ، وعدم إخفاء أطماعها حتى بميناء الفاو العراقي مستغلة نفوذها الذي خلقه لها الإحتلال الأمريكي للأرض العراقية تعبوياً وسياسياً من خلال السلطة العراقية الحاكمة والميليشيات التابعة للأحزاب المتنفذة والتي تُغذى من قبل إيران سراً وعلناً !! ، أضف الى ذلك قيامها باستخراج النفط من حقل " مجنون " العراقي النفطي وبدون معارضة عراقية رسمية تذكر على إعتبار أن الحقل النفطي المذكور هو ( حقل مشترك ) وهو ما يناقض كل المفاهيم لخرائط وحقول النفط في العالم ، ومن الغريب أن يأتي ذلك التبرير من وزير النفط العراقي ، حسين الشهرستاني !!

وتكاد تظهر أمام المتابع لما يجري في المنطقة ، خطوات إكتمال مشروع الهلال الشيعي ، أو هكذا أطلق عليه .. وهو في الحقيقة أقرب الى الهلال الإيراني أو الفارسي !
فهل يعني ذلك البديل المقترح عن المشروع الإمبريالي القديم ( مشروع الهلال الخصيب ) الذي كانت تتبنى فكرته بريطانيا في بداية القرن الماضي وسقط مع سقوط حلف المعاهدة المركزية ، أو حلف بغداد .؟!   

وأخيراً وليس آخراً ، بدأ همس اللوبي الإيراني في المنطقة الشرقية من المملكة العربية السعودية ، يأخذ منحىً علنياً مستخدماً نفس الإسطوانة المشروخة ( المظلومية )  لدرجة التحدث وبوقاحة عن مشروع إنفصالي لهذه المنطقة من الأرض العربية الإسلامية . وما أحداث الشغب التي وقعت مؤخراً على أرض المدينة المنورة والبقيع ، إلا حلقة ضمن هذا المخطط الإجرامي والإرهابي الذي يُنتج ويُخرج وينفذ بأيدٍ فارسية بإسم الشيعة .

ثانياً : التحرك المحموم في مجال التسلح والتطوير العسكري والتهديدات المبطنة لدول المنطقة من هذا المنطلق .

لقد إنهار الجيش الإمبراطوري الإيراني على يد رجالات الثورة الإيرانية بقيادة الخميني وحفنة من رجال الدين وتابعيهم ومنظّريهم عام 1979 .. تماماً كما حدث للجيش العراقي بعد 24 عاماً ، وعلى يد الفصائل المؤتمرة بالأمر الإيراني والمتعاونة معه والتي وصلت الى الحكم في ظل السلاح الأمريكي الفتاك وإحتلال العراق .

الآيديولوجية واحدة في الحالتين ، وتقوم على خطورة بقاء جيش نظامي على درجة من الإنضباط والتدريب والتسليح في ظل سلطة حاكمة جديدة مهزوزة الثقة بقدراتها وتقوم على أساس التنظيمات الحزبية المسلحة " الميليشيات " . في إيران ، الحرس الثوري ، وفي العراق فيلق بدر وجيش المهدي وميليشيا أحمد الجلبي التي دخلت العراق مع الجيش الأمريكي والتي كان قد تم إعدادها وتدريبها في هنغاريا ، ولتتحول هي وغيرها بعد ذلك الى فرق الموت ، ثم لتكون العمود الفقري في تشكيل الجيش الجديد وقوات الشرطة والأمن .  

لقد دفعت إيران ثمن ذلك في حربها مع العراق ، ولايزال العراق يدفع الثمن في فقدان الأمن والقانون والعدالة . وبعد أن خرجت إيران من حربها مع العراق خاسرة في عام 1988 ، بدأت في مخططها الجديد لبناء قواتها البرية والجوية والبحرية بالتعاون مع روسيا إبتداءاً ، والتي وجدت الأخيرة في ذلك الفرصة الذهبية لكسب إيران بعد خسارة الجيش الأحمر المريرة في أفغانستان بإسناد أمريكي ومحاولة تحقيق الحلم الروسي القديم في الوصول الى المياه الدافئة في المحيط الهندي والخليج ، والذي يبدو أنه لم تأتِ رياحه بما تشتهي السَفن . إذ سرعان ما بدأت السلطة الإيرانية بفتح قنوات سرية مع كل من الولايات المتحدة وإسرائيل أبقت علاقات الروس معها في حالة تهافت ومنافسة للكسب السياسي وهو ما يظهر جلياً في وقوف الروس الى جانب إيران في المحافل الدولية وعلى رأسها الأمم المتحدة ومجلس الأمن ! ، هذه العلاقة مع الولايات المتحدة وإسرائيل كانت قد بدأتها في أواخر حربها مع العراق ، وتم إنكشاف بعضها بما عرف بفضيحة إيران كونترا أو إيران كيت ، عندما قامت إسرائيل بتزويد إيران بقطع غيار عسكرية ومعدات .
تشير كافة الدلائل بعد ذلك باستمرار هذا التعاون حتى الوقت الحاضر على الرغم من أن الصورة الظاهرة للعيان تُظهر عكس ذلك ، أو هكذا أُريد لها !   

سأنقل هنا نصوص من وثائق نشرت في الصحافة ووسائل الإعلام ، تطرق اليها الكاتب سامر جميل في مقاله : ( التعاون الإيراني الإسرائيلي لتدمير العراق ) الذي نشر له على موقع ( كتّاب من أجل الحرية ) بتاريخ 13/4/2009 .

كتب الصحفي الإسرائيلي ( أوري شمحوني ) في صحيفة ( معاريف ) الإسرائيلية في 23/9/1997 :
(( إن إيران دولة إقليمية ولنا الكثير من المصالح الإستراتيجية معها ، فإيران تؤثر على مجريات الأحداث وبالتأكيد على مايجري في المستقبل . إن التهديد الجاثم على إيران لايأتيها من ناحيتنا بل من الدول العربية المجاورة ، فإسرائيل لم تكن أبداً ولن تكون عدو لإيران .. ))

(( أصدرت حكومة نتنياهو أمراً يقضي بمنع النشر عن أي تعاون عسكري أو تجاري أو زراعي بين إسرائيل وإيران ، يأتي ذلك لتغطية فضيحة رجل الأعمال الإسرائيلي " ناحوم منبار " المتورط بتصدير مواد كيمياوية لصنع غاز الخردل السام الى إيران . " صحيفة الشرق الأوسط / العدد 7359 " ))

(( عن صحيفة " الحياة " اللبنانية ، العدد 13070 ، نقلاً عن كتاب " الموساد " للعميل السابق في جهاز الإستخبارات البريطانية " ريتشارد توملينسون " وثائق تدين جهاز الموساد لتزويده إيران بمواد كيمياوية .. قامت شركة كبرى تابعة لموشيه ريجف الذي عمل خبير تسليح لدى الجيش الإسرائيلي ما بين 1992 ـ 1994 ، ببيع معدات وخبرات فنية الى إيران . ووثق هذا التعاون بصورة تجمع بين موشيه والدكتور ماجد عباس رئيس الصواريخ والأسلحة البيولوجية بوزارة الدفاع الإيرانية . الخبر منقول عن صحيفة " هاآرتس " الإسرائيلية . ))

(( حسن روحاني ، رئيس مجلس الأمن الإيراني ، قال عندما أعيد إنتخاب بوش لولاية ثانية : " فوز بوش سيخدم مصلحة إيران !! "  ))

((  الصحفي الإسرائيلي " يوسي مليمان " كتب يقول : في كل الأحوال فإن من غير المحتمل أن تقوم إسرائيل بهجوم على المفاعلات النووية الإيرانية ، وقد أكد عدد كبير من الخبراء تشكيكهم بأن إيران بالرغم من حملاتها الكلامية ـ تعتبر إسرائيل عدواً لها ـ وأن الشيئ الأكثر إحتمالاً هو أن الرؤوس النووية الإيرانية هي موجهة للعرب . ))

هذا غيض من فيض ، والعالم وخاصة إسرائيل وأميركا ، لازال يرى التسلح الماراثوني الإيراني في مجال التطوير النووي ، والتجارب الصاروخية من البر والبحر ، والتسليح المستمر ، وبناء ترسانات الأسلحة بأنواعها الكيمياوية والبيولوجية والتقليدية .. والكل صامت ، فيما عدا التصريحات المثيرة لذر الرماد في العيون !!

بعد ذلك دعونا نتساءل .. أين نقف نحن العرب شعوباً وحكومات ..؟
وقبل أن نجيب على ذلك .. لابد من المرور على مواضيع القسم الثاني لإلقاء الضوء عليها . وهو موضوعنا التالي .

18/05/09



         
 


No comments:

Post a Comment